ومع ذلك لم يستطع الصمم أن يثن بعض ضحاياه من المضي قدماً في تيار الحياة، وكي يثبت هؤلاء المعاقون بأن الإنسان مجموعة رائعة من القدرات إن
قام السيد زهير جمجوم مشكوراً بإصدار كتاب عن أشهر المعوقين في العالم استعرض فيه حياة خمسين شخصاً من هؤلاء بإعاقات مختلفة سواء كانت جسمية أم حسيِّة أم عقلية، ويهمنا منهم الآن بعض من الذين أصيبوا بالصمم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر لودفيج فان بيتهوفن، الموسيقي المعروف وسيتم التفصيل عنه، وديفيد رايت الذي كان شاعراً وموسيقياً كبيراً في العصر الحديث فهو من مواليد 1920 في جوهانسبرغ جنوب إفريقيا، وأشهر المعوقين على الإطلاق هيلين كيلر الأمريكية الأصل من ولاية ألاباما، والتي كانت صمَّاء وعمياء وبكماء ومع ذلك حققت الأعاجيب بقدراتها وتصميمها والظروف التي هُيئت لها، فهي من مواليد 1880 توفيت سنة 1968 حيث عاشت 88 عاماً حافلة بالنشاط والعمل والإنتاج وذلك بفضل الإرادة والتأهيل الصحيح والمخلص فقد منحتها القدرة الإلهية المعلِّمة (آن سوليفان) لتضعها على أول الطريق الصحيح لكي تنطلق وتحلق عالياً في عالم الإبداع الذي كان مستحيلاً معها بسبب إعاقاتها الكثيرة.
أما من العرب فقد كان الكُميت بن زيد الذي ولد بالكوفة سنة 60 هجرية من كبار الخطباء والشعراء برغم صممه وكان معلماً للناشئة، وقيل فيه: (لولا شعر الكُميت لما كان للغة ترجمان، ولا للبيان لسان) وقيل أيضاً: (في الكُميت خصالٌ لم تكن في شاعر، كان خطيب بني أُسدٍ، وفقيه الشيعة، وحافظ القرآن، وثبت الجنان، وكان كاتباً حسن الخط). ثم محمد بن سيرين الذي ولد سنة 33 للهجرة كان مصاباً بالصمم ومع ذلك كان عالماً فقيهاً، قال عنه الأصمعي: (إذا حدَّث الأصم بشيء فاشدد يديك) توفي سنة 110 للهجرة.
وأخيراً الأديب مصطفى صادق الرافعي الذي فقد سمعه قبل بلوغه الثلاثين من عمره، وقد عاش في العصر الحديث في مصر حيث ولد سنة 1880م ومع ذلك لم يمنعه من الكتابة والتأليف والإبداع في النثر والشعر على السواء.
ولكن ما يعنينا الحديث عنه هو الموسيقي العظيم لودفيج فان بيتهوفن الذي ولد في مدينة (بون) بألمانيا في ليلة باردة من ليالي شهر كانون الأول (ديسمبر) في العام 1770م وقد سمي على اسم جده، وعاش في جو مفعم بالموسيقى والفنون والجمال والطبيعة، فقد كان أبوه (يوهان بيتهوفن) وجدّه، مدربان في جوقة (الأوركسترا) ويغنيان بالكنيسة.
أحبَّ الجد حفيده الصغير لودفيج بشدّة، فاعتاد أن يأخذه معه إلى منزله المقابل لمنزل ابنه يوهان ويُجلس الطفل على ركبتيه وهو لم يتجاوز عمره السنة الواحدة ويسمعه أنغام البيانو والكمان، ويمتعه بالنظر إلى اللوحات المزينة للجدران، ومشاهدة الطبيعة عبر النافذة، كما كان دائماً يتمشَّى معه في شوارع بون وعلى ضفة نهر الراين ويتنزهان في أجواء الريف.
تبدّلت حياة لودفيج بعد وفاة جدّه وهو لا يزال في الثالثة من عمره، فاهتمت بعنايته أمّه (ماريا بيتهوفن) لفترة قصيرة لينتقل إلى رعاية والده يوهان، وهذا كانت له طباع مختلفة وسيئة، فقد اتبع مع ابنه الصغير لودفيج نظاماً قاسياً جدّاً، لا يخلو من الوحشية، فقد كان الوالد سكيراً لا يترك الحانة إلا قليلاً، ويظل يحتسي الخمر حتى الصباح في غالب الأحيان. فيفقد عقله وتتحول تصرفاته إلى إنسان غير سوي، فبدأ يدرب الصبي على البيانو، وغالباً ما يكون التدريب بعد منتصف الليل، أي بعد عودة الأب من الخمارة، فيوقظ الصبي الصغير من أحلامه الهنيئة ويعطيه دروساً موسيقية على البيانو والكمان، والويل الويل لهذا الصبي الصغير إذا أخطأ في العزف، يضربه والده بمسطرة على أصابعه الناعمة الصغيرة حتى يصحح ما أخطأ به. وكان من المفروض أن يكره هذا الصبي ابن الخامسة من عمره الموسيقى، ولكنه على العكس أحبها حباً شديداً يعادل حبه لأمِّه الحنون، وكره والده، وكانت حجة الوالد في تصرفه هذا أنه يريد أن يصقل موهبة الطفل تماماً ليصبح الطفل المعجزة الذي يضاهي الموسيقار (موتزارت) صاحب الموهبة التي لا مثيل لها في العالم، فقد كانت صورة موتزارت عالقة بذهن الوالد يوهان، وأراد أن يخلق من ابنه صورة مماثلة، ولم يستوعب أن لكل طفل موهبة مختلفة عن الآخر. ومع ذلك وصل بيتهوفن لدرجة إدهاش الأمراء والأشراف بموسيقاه وأظهروا له التقدير الكبير وهو في السادسة من عمره، ومن الناحية الأخرى أراد الوالد من ابنه أن يعتمد على نفسه ويجني بعض المال من تفوقه. هكذا قال يوهان والد لودفيج لزوجته ماريا.
والد بيتهوفن: يوهان بيتهوفن
كان يوهان يضرب ابنه لودفيج في كثير من الأحيان عندما يسمعه يعزف ألحاناً جديدة برغم روعتها، بهدف حثَّه على تحسين عزفه، فإن بيتهوفن كان يتدرب على العزف بغياب والده ويؤلف موسيقى جديدة فيها الكثير من الإبداع، تحقيقاً لرغبة عنده من جهة، ولمحاولة إرضاء والده من جهة أخرى
رحلته الأولى:
في شهر شباط (فبراير) من العام 1778 انطلق لودفيج بيتهوفن في جولة في بعض المدن، ليقدِّم بعض معزوفاته بهدف كسب المال من خلال حفلات سيقوم بترتيبها، ونجح بذلك، ولكن الحفلة التي كانت بمثابة الصدمة له هي التي رتَّبها والده في مدينة (كولون) فبرغم نجاح لودفيج في العزف كطفل لا يزال في سن الثامنة، إلاّ أن والده صفعه على وجهه في الفندق بسبب ضحك الجمهور عليه لأنه أزاح شعره المستعار بالخطأ عن وجهه ليمسح عرقه المتساقط عن وجهه رغم برودة الجو. لم يكترث كثيراً لهذا الأمر فقد تعوَّد من والده هذه القساوة، وهذا الغضب الذي يبديه بسبب وبدون سبب، حتى أنه أجاب والده عندما عنَّفه في تلك الحفلة بقوله: (إنَّ موتزارت أحسن منك بكثير) أجابه قائلاً بكبرياء وعنف: (أنا بيتهوفن وليس موتزارت) فلعلَّ هذه الثقة اللامحدودة، والكبرياء المتأصل فيه، كانا دائماً يجعلاه فضَّاً بإجاباته، يظهر قساوة في قسماته، وحدَّة في نبراته، بسبب ما نشأ عليه من تربية قاسية، فلعلَّ هذا جميعاً كان سرّ نجاحه وعظمته وتفوقه حتى آخر لحظات عمره
الانطلاقة الأولى
أمضى بيتهوفن الفترة ما بين الثامنة والثالثة عشرة يتدرب على يد والده من جهة وأحد المدرسين في قصر الحاكم الذي علمه العزف على الأورغن من جهة ثانية، وشكَّل مع مدرسه وصديقه عازف الكمان ثلاثياً موسيقياً برغم تفاوت الأعمار بينهم. في الثانية عشرة من عمره ألف (سوناتات الحالم) الثلاث وقدَّمها لحاكم البلاد. ثم عمل في إحدى الجوقات الموسيقية كلاعب أساسي على الأورغن بمرتب سنوي يتقاضاه من الحاكم، ويسلِّم مرتبه لأمِّه.
أول لقاء كان بينه وبين موتزارت في فيينا (عاصمة النمسا) وهو في سن السابعة عشرة، بعد أن ساعده الحاكم للسفر إليها، وأُعجب موتزارت بمهارته بالعزف، واتخذه تلميذاً له، حتى أنَّه قال جملة مأثورة عنه: (اهتموا بهذا الصبي فسيكون حديث العالم في المستقبل) وبقي في فيينا إلى أن تلقى رسالة تخبره بمرض أمِّه أغلى الناس لديه، فقد كانت رمزاً للحب والوفاء، وكان بيتهوفن يتحدَّث عنها بكل تبجيلٍ وتكريم، فهي التي منحته كل الذي افتقده في والده، كانت رقيقة وديعة تصارع الحياة ببطولة وإرادة وعنف لتحفظ للأسرة بقاءها. وعاد إلى بون لفترة، رجع بعدها إلى فيينا ليكمل مشواره حيث استقل عن موتزارت وعمل بفرقة الحاكم عازفاً على البيانو، وألف بعض القطع الموسيقية، واستقلَّ مادياً، وأمِن نفسه من الفقر.
انهمك بيتهوفن في عمله، بعد وفاة أمه وعودته إلى بون ثمَّ إلى فينا، وقصده الكثير من الطلاب ليتعلموا الموسيقى تحت إشرافه، وتعرَّف على الموسيقار العظيم (هايدن) بعد أن كان موتزارت قد رحل عن العالم وهو بعمر الزهور. وتتلمذ على يديه، فقد كان بيتهوفن يرغب في كسب المعرفة وتبادل الخبرات، والتعمق في الموسيقى، لم تكن الشهرة تعنيه كثيراً ولم تشكل مطلباً عنده، لكن هدفه الأسمى حمل هذه الرسالة الموسيقية وإيصالها للناس، وفي هذه السنة 1792 وصله خبر وفاة والده الذي لم يشعر مرَّة بوجود فراغ كبير لفقدانه. وفي فيينا اشتهر بيتهوفن وسرعان ما انهالت عليه دعوات الملوك والأشراف، ولم يبخل عليهم بضربات أنامله الساحرة على البيانو، وقد خصص الأمير (ليشنوسكي) راتباً سنوياً له، وخلال ثلاثة أعوام أصبح نجماً لامعاً في سماء الموسيقى الأوروبية
لقي نجاح بيتهوفن كل تقدير أدبي ومادي من الطبقة الأرستقراطية في فيينا، وهي الطبقة الذوَّاقة للموسيقى التي احتضنت العبقري الشاب وأغرقته بالتكريم وبعروض العزف، حتى أصبح وقته لا يتسع لقبول عروض جديدة.. ومما هو جدير بالذكر أن صديقه الكونت فالدشتاين كان قد قدَّمه إلى النبلاء بخطابات مهدت لقدومه إلى فيينا. وأصبح مدرِّساً للكثير من أبناء وزوجات الأمراء، وقد ابتسمت له الدنيا، وكان عاشقاً للحرية، ولازمته عادة المشي طوال حياته فكانت رياضته المفضلة البدنية والعقلية، وفي جيب معطفه كان يحمل دفتر الموسيقى الذي كان يدون عليه أفكاره النوتات والألحان، ويتوغل في غابات فيينا فيجلس إلى جوار جذع شجرة ويكتب ما يخطر بباله من ألحان.
الكارثة الكبرى
في العام 1798 بدأ بيتهوفن يشعر بالصمم، ولم يأخذ هذا الأمر مأخذ الجد، لأنه ربط بين هذا المرض وما كان يعاني منه من ضعف في المعدة والدوزنتاريا. ولم تمضِ سنتان حتى تأكدت المشكلة، فأخفى هذا الأمر عن جميع الناس، لأنه شعر بالمهانة والعذاب مع ما كان يشوه وجهه من مرض لازمه منذ طفولته، وهو آثار الجدري، فكتب لصديقه الدكتور فيجلربون: "إن أذني تصفر وتؤلمني بشكلٍ دائم ليل نهار، وإن الله وحده ليعلم ماذا سيصير إليه أمري".
بدأ ينسحب من المجتمعات حتى لا يفتضح أمره، لم يكن قادراً على الإفصاح للناس: "إنني أصم" وأضاف: "بالنسبة لي، لا يوجد ترفيه ولا تسلية في المجتمعات الإنسانية، ولا أستطيع أن أستمتع بحوار شيق أو أتبادل أفكاري وأحاسيسي مع الآخرين.. لا مفر من أن أعيش في منفى.. وبعد قليل، يتعين عليَّ أن أضع نهاية لحياتي".. لقد وصل به اليأس إلى مرحلة اللاعودة، فالكارثة استحكمت، وعلى هذا الأساس وضع بيتهوفن وصيته الشهيرة في هذه الفترة، أفصح فيها عن أقصى درجات المرارة التي أحسَّ بها والعذاب النفسي الذي عاناه.