للتكنولوجيا الحديثة أثرها الفاعل والعميق في التربية والتعليم والإعلام ومنظومة القيم والمعتقدات ، وفي الثقافة بوجه عام. فقد حدد عصر التكنولوجيا الحديثة والمعلومات الغايات الرئيسية للتربية والتعليم باكتساب المعرفة ، والتكييف مع المجتمع ، وتنمية الذات والقدرات الشخصية ، وإعداد الإنسان لمواجهة مطالب الحياة في ظل العولمة. وإذا كان التركيز في التربية التقليدية على ماذا نعرف ، فقد أصبح الهدف كيف نعرف في ظل الانفجار المعرفي ، وكيف نتقن أدوات التعامل مع المعرفة ، وكيف نستوعبها ونعمقها ونوظفها. أي كيف يتعلم الفرد ذاتياً. والثقافة في عصر المعلومات هي فن ممارسة الحياة في ظل بدائل هذا العصر العديدة ومتغيراته العميقة والسريعة. والمعرفة متداخلة ومتكاملة وواسعة النطاق. والتعلم مدى الحياة مطلب أساسي من مطالب تربية عصر المعلومات. ويقتضي ذلك تنمية روح المثابرة والإبداع ، واكتساب مهارات استخدام نظم الكمبيوتر والمعلومات من أجل تنمية القدرة على التعامل مع النظم المعقدة ، والعلاقات الشبكية. وهذا يعني مداومة تنمية عقل الإنسان وقدراته الذهنية.
ومع التوسع في استخدام تكنولوجيا المعلومات يزداد التعامل مع واقع الحياة من خلال الوسيط الالكتروني من شاشات عرض ووسائل اتصال وتحكم. ومع انتشار الانترنت لم يعد تعامل الفرد محصوراً في عالم الواقع ، بل تجاوزه إلى العالم الخائلي الذي يزخر به الفضاء المعلوماتي القائم على انساق الرموز. وبفضل الذكاء الاصطناعي أمكن استخلاص المعارف والخبرات بصورة مباشرة من واقع تجاربها وما يجري حولها. وفي مجتمع المعلومات يتم التعلم عن بعد ، والتعلم بالمشاركة بين الطلبة ، والتعلم التكافلي بين الطلبة ومعلمهم ، والتعلم بالمراسلة. ويمكن تنمية الإبداع والخيال من خلال إتباع أساليب التعلم بالاكتشاف ، ومن خلال التجربة والخطأ ، واستعمال تكنولوجيا المعلومات في جميع الميادين الثقافية ، واستخدام النظم الخائلية لإقامة عوالم ميكروية ، والتعلم من الآخرين بالحوار والمشاركة عن بعد عبر الانترنت. ولا بد من تنمية ملكة الحكم على الأمور ، والشعور بالمسئولية الفردية.
أما التعلم لمشاركة الآخرين فيقتضي التخلص من نزعات التعصب والعنف واكتشاف الآخر من خلال اكتشاف الذات ، وتنمية مهارات الحوار مع الآخر وتنمية الرغبة في مشاركة الآخرين.
أما أثر التكنولوجيا الحديثة والمعلومات على الإعلام فقد بلغ شأواً بعيداً.
وأبرز هذا الأثر في تكنولوجيا الكمبيوتر وبرمجياته ، وفي تكنولوجيا الاتصالات ولا سيما الأقمار الصناعة وشبكات الألياف الضوئية والانترنت. ورافق هذا تدفق سريع للمعلومات التي أصبحت سلعة اقتصادية في حد ذاتها. ومع الاستخدام المتزايد لوسائل الإعلام لأغراض سياسية واقتصادية زادت أهمية الإعلام في حياة البشر وفي ثقافتهم بخاصة.
ولما كان الإعلام العربي واقعاً بين هيمنة السلطة عليه وإغراءات الإعلان فقد عانى من ضمور الإنتاج وشح الإبداع ، ووقع في فخ شبكة الأقمار الصناعية ، وشبكة الانترنت ، وشبكة التكتلات الإعلامية المتعدية الجنسية. وتخلى الإعلام العربي عن مهمته التنموية الأساسية واتخذ طابع الترفيه. وفي عالم تحتكر وكالات أنباء عالمية أربع %80 من فيض المعلومات ، ويحتكر عدد قليل من شركات الإعلام المتعدية الجنسية الإرسال المرئي والسمعي والإنتاج التلفزيوني والسينمائي.
ولا شك أن الاحتكار والاندماج بين الشركات الكبرى الإعلامية ينذران بنهاية حرية المعلومات بعد أن أصبح يحكمها معيار الربح والخسارة. ولما كانت البلاد العربية من بلدان العالم الثالث فقد أوشكت هذه على فقدان استقلالها الإعلامي ، واتسمت السياسات الإعلامية بانفصام بين الغايات والإمكانات وبين الشعارات والممارسات ، والتبعية الأكاديمية لمعاهد الإعلام العربية للمدارس الغربية ، وفقدان الثقة بالإعلام المحلي.
وتجمعت أدوات الاتصال ووسائله في المنزل: الهاتف والتلفزيون والانترنت وبث الأقمار الصناعية ، وبرامج الكمبيوتر ، والعاب الفيديو ، بالإضافة إلى الراديو والهاتف النقال ، وكمبيوتر راحة اليد ، وذاكرة الجيب الالكترونية. وعلاقة الإعلام بالثقافة علاقة وثيقة. والإعلام هو التطبيق المباشر للفكر الثقافي والسياسة الثقافية. وتعد الثقافة في جميع البلاد العربية من الأمور الثانوية ، وكثيراً ما تندمج الثقافة والإعلام في وزارة واحدة.
ومع تركيز الإعلام الغربي في عصور ما بعد الحداثة على التمييز العنصري ، ووضع المرأة بالنسبة إلى الرجل ، ووضع الأقليات الاثنية والطائفية ، انجرف الإعلام العربي وراء هذه الموضوعات وأهمل رسالته الوطنية. وإذا كان البعض يرى أن تكنولوجيا الاتصال الحديثة قد حولت العالم إلى "قرية كونية" فقد رأى فيها آخرون "إمبريالية إعلامية" تهدد الهوية القومية للأمم. ويرون في وسائل الإعلام وسيلة للسيطرة ، وتجديد دماء الرأسمالية من اجل مزيد من الاستغلال للشعوب الفقيرة.
وقد أدى تركيز الإعلام الحديث على الصوت والصورة إلى تهديد مكانة اللغة ويتضح هذا في إعلامنا العربي حيث يضحى باستعمال العربية الفصيحة من أجل استعمال اللهجات المحلية ، وفي ذلك خطر على وحدتنا الثقافية.
ولكن هل أنستنا تكنولوجيا المعلومات مطالبنا الوجدانية وحاجتنا إلى الألفة والتآخي وإحساسنا بالذات والهوية؟ وهل أدت إلى انحسار الإيمان الديني؟ صحيح أن تكنولوجيا المعلومات قد أكدت أن العالم الجديد الذي نعيش فيه مليء بالاحتمالات وعدم اليقين ، وأن البشر مسوقون إلى مصير مجهول. وقد تكون الصحوة الدينية في عالم اليوم نتيجة هذه المجابهة الخفية بين أفكار عصر المعلومات والقيم والأخلاق ، التي تجلت بما فجرته الهندسة الوراثية وتجاربها من قضايا أخلاقية. وظهرت الحاجة ماسة لأخلاق لحماية البيئة ، وأخلاق للتجارب البيولوجية وأخلاق للمعلومات وأخلاق للانترنت بمضامين جديدة تشمل قيم الحرية المسؤولة والمساواة والعدالة والتسامح والأمن.
أما في وطننا العربي فلم يبلغ العلم والتكنولوجيا الثقل الكافي كي يعادل الدين. وبينما نجد الغرب يبحث عن قيم جديدة يواجه بها عصر المعلومات ، فان شاغلنا الأساسي هو كيفية الدفاع عن قيمنا إزاء الخطر القادم إليها من الغرب. وقد نحتاج إلى إعداد نوعية جديدة من الباحثين في الفقه الإسلامي وأصول الدين قادرين على الجمع بين العلوم الحديثة والعلوم الدينية.
ومن المعروف أن العولمة في صيغتها الراهنة قد قامت أصلاً على الاستغلال وتدمير البيئة وعدم العدالة في توزيع الموارد الطبيعية والمعلوماتية. وقد أوصلت العالم إلى فرض ثقافة معينة هي الثقافية الأمريكية على البشرية كلها ، وتحويل ثقافات الأمم والشعوب الأخرى إلى مهرجانات وطنية ، ودياناتها إلى مجرد طقوس ، وتراثها إلى وثائق أرشيفية ومقتنيات في المتاحف. وتكاد تفرض علينا حتميات أربع هي: حتمية اقتصادية: إما الرأسمالية وإما لا ، وحتمية إعلامية: إما نمط الإعلام للمؤسسات المتعدية الجنسية وإما لا ، وحتمية لغوية : إما الانكليزية وإما لا ، وحتمية أخلاقية: أما خلق عالمي بالمفهوم الأمريكي وإما لا.
هذه تحديات ثقافية تواجه مجتمعاتنا العربية ، وتواجه في المقام الأول مفكرينا ومثقفينا مثلما تواجه أساتذة الجامعات والباحثين العرب ومعلمي المدارس في وطننا العربي الكبير. وتقتضي وعياً وصحوة عميقين ، وتوجهاً عاماً في كل قطر عربي للتصدي لهذه التحديات بمنتهى الجدية والصبر.